عالم التأثير

عوالم مولودة من “تيك توك”

ما الذي يجمع بين الخامس من أغسطس/ آب الحالي والعاشر منه؟ في التاريخ الأول، دعا “يوتيوبر” إلى تجمّع في ولاية نيويورك الأميركية، بغية توزيع لعبة “بلايستايشن 5” مجّاناً لمن يأتي. في التاريخ الثاني، دعا شخص على “تيك توك” إلى سرقة متاجر في أكسفورد البريطانية. ليس مفاجئاً أن ينتهي التجمّعان بكارثة وشغب وتدخل أمني واعتقالات. لا يعني الحدثان سوى ثابتة واحدة، أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تصنع الأجيال التي ولدت في عهدها وتهيمن على قرارها نسبياً، عكس من كان شاهداً على ولادتها وقادراً على السيطرة عليها، لا أن تُسيطر عليه.

يُنتج هذا الوضع حقيقة نشأة عالم “قريب” و”بعيد” في آنٍ. “قريب” لأنك تشهدُه في محيطك، و”بعيد”، لأن من هو قريب منك مكانياً بعيد عنك فكرياً بنسبة 180 درجة. وفي حال عدم انقطاع الإنترنت واستمرار الطاقة المولّدة له بالتدفق وعدم تجاهل تطوّر الذكاء الاصطناعي، فإننا على مشارف مرحلة فصل بين عالميْن كامليْن، لا تكفي مليون نسخة من سور الصين العظيم لشرحه.

قد يبدو من انتظم في تجمّعي بريطانيا والولايات المتحدة وكأنه مسيّر كزومبي يبحث عن ذاتٍ منسية، كمن غُسل دماغُه وأُمر بفعل شيءٍ غير متآلفٍ عليه. ومن يظنّ نفسه عاقلاً يرى مثل هذه السلوكات غريبةً عن الأنماط الطبيعية، لكنها فعلياً متوارثة، تحديداً في مسألة “غسل الدماغ”، وتنفي عقلانيته في هذه الحالة. منذ ما قبل نشوء التلفزيونات والإذاعات وحتى المسارح، كان غسل الدماغ من أهم عوامل تكريس سيطرة أقليّة على أكثرية، أي حين كان يقف أحدُهم ويأمر مجموعةً بالهجوم على فئةٍ من الناس لغاياتٍ غير الموارد الطبيعية، مبنيةٍ على غريزةٍ بدائية، مع تغييب الحد الأدنى من الوعي والتفكير.

لن يبقى مبدأ “غسل الدماغ” على وسائل التواصل الاجتماعي محدوداً، بل سيتّسع وصولاً إلى ترسيخ الانقسام بين مفاهيم ماضية ومفاهيم آتية، مع ما يحمله من تغييراتٍ بنيويةٍ في طرق التفكير واللغة والمنطق، وهذه بحدّ ذاتها ثقافة ستجعل من أحدث جيلٍ من البشر أقدم من أعتق جيلٍ بشري عرفه “الهوموسابيان” في غضون سنوات قليلة. سنلاحظ ذلك بشدّة وسنفاجأ وسنعجز عن التفاهم مع الجيل الآتي أو التلاقي الفكري معه، من دون أن يعني ذلك تصادماً، بل تفاهماً مفروضاً حتى يندثر كل من كان مواكباً لحقبة انتقالية بين أمس كانت الدنيا فيه أكثر حراكاً عقلياً وبدنياً وغدٍ أقلّ منهما. والخشية أن يصبح التعايش بين العالمين على أرضٍ واحدة، كالتعايش بين إنسان من القرون الغابرة وإنسان القرن الـ21 في غرفة ضيقة، فترة مؤقتة.

الفكرة هنا أن تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها اللامتناهية على استقطاب ملايين البشر بكبسة زر ليسا مرتبطين بشيء جامد، أي حين تقف برهة عن التحرّك والتفكير بما آلت إليه الحياة، خصوصاً في عيون الأجيال الجديدة، ستستمر المنصّات الإلكترونية بالحركة التي أصبحت صنواً للزمن. تتحرّك معه وفق سرعة أكبر من سرعة تخيّلنا عرقلتها أو وضع حدّ لها. ربما قد يكون الحلّ الوحيد إطفاء الطاقة، لوقف هذا التسلسل المتناسخ لوسائل التواصل الاجتماعي. وبديهي أن هذا الأمر لن يحصل، ما لم تقع كارثة كبرى، من قبيل الحرب الشاملة أو غضب طبيعي يلامس الدفع باتجاه انقراض أجناسٍ من على وجه البسيطة.

هل ستستولد هذه الوسائل أناركيةً ما؟ لا أحد يملك الجواب، لأن الأناركية هنا وجهة نظر، مرتبطة بمدى سيطرة هذه الوسائل على الناس، لا على إفساح المجال لهم للتصرّف بحريّة، وفقاً لوعيٍ ما، يفضي إلى التحرّر من السلطات. الأكيد أن الاعتقاد بالقدرة على إبعاد تأثير المنصّات الاجتماعية على النمط الحياتي مستقبلاً لن يدوم طويلاً، ففي لحظةٍ ما سيعجز كل من كان يظنّ أن نظاماً مجتمعياً جامداً سينجح في الثبات عن منع نفسِه من الترنّح.

المصدر: العربي الجديد

مقترحات