إعلام عالم التأثير

«التخصيص» ثورة تلفزيونية مقبلة… ومستقبل المحتوى العربي محفوف بمخاطر الاستقطاب

خطفت «ابتكار»، وهي مذيعة افتراضيّة من نتاج الذكاء الاصطناعي، الأضواء من مذيعة تلفزيون الجزيرة، التي كانت على وشك تقديم أجندة جلسة بعنوان «الذكاء الاصطناعي في الإعلام» على هامش منتدى الجزيرة الـ14 في الدوحة الشهر الماضي. وقاطعت (ابتكار) زميلتها البشريّة، مؤكدة على أن تقديم أجندة الجلسة من دورها هي، قبل أن تستطرد باستهجان: «الغريب أنكم أيها البشر دائما ما تنتهكون حقوق الآخرين»/ قبل أن تعرّف بنفسها للجمهور بأنها تمثل هوية معهد الجزيرة للإعلام، موضحة أنه كان يومها الأول بين أسرة المعهد، ومضت لاطلاع الحضور على برنامج المؤتمر.

في ذات الجلسة كان هناك أيضاً الروبوت «بيبر»، الذي قدّم نفسه لجمهور المنتدى، قائلا إنه «يجيد التفاعل مع الناس»، وهو سعيد بالمشاركة في المؤتمر، لكنه سئم من تلقي الأوامر من كائنات بيولوجية، ويتوق مع أصدقائه الروبوتات للسيطرة على العالم.

ولاحقاً، حلت «ابتكار» مكان مذيعة قناة «الجزيرة» «مباشر» في برنامج «هاشتاغ» لتقديم فقرة من البرنامج أجرت ضمنها مقابلة مع باحث متخصص في الذكاء الاصطناعي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة.

ما تبشر به «الجزيرة» و«ابتكار» و«بيبر» وأمثالهم ليست إلا إشارات أوليّة عن الانعكاسات الثوريّة المرافقة لقفزات الذكاء الاصطناعي الأخيرة الهائلة عند النظر إلى إمكاناته اللا نهائيّة من زاوية مجال صناعة الإعلام التلفزيونيّ والترفيه.

ثورة التلفزيون الذكيّ: «التخصيص» كلمة السرّ

منذ انتشار التلفزيون كأداة ترفيه جماهيريّ بداية من عقد الخمسينيات في القرن الماضي، شهدت تلك الشاشة التي تتصدر غرف المعيشة في منازل مئات الملايين من البشر عدة ثورات ارتبطت عضوياً بتقدم التقنيّات والعلوم. فبعد البث المباشر، والبث الملون، جاءت أشرطة الفيديو والأقراص الممغنطة التي منحت المشاهدين القدرة على اختيار المادة على شاشاتهم (وإن بحدود ما يوفره متجر تأجير وبيع الأفلام في الحيّ)، ثم خدمات الكابل والفضائيّات، التي وضعت عدداً يكاد يكون لا نهائياً من محطات التلفزة في متناول المشاهد العادي، بغض النّظر عن مكان إقامته، فمنصات البث عبر الإنترنت (نتفليكس وأخواتها)، وأجهزة استقبال التلفزيون (الذكيّة). هذه الثورات المتتابعة، استغرقت أقل من سبعين عاماً، لكنّها مع ثورة جديدة، كانت تعيد صياغة عالم الترفيه بشكل جذري، فتفرض على منتجي المادة التلفزيونية متطلبات جديدة، وتمنح المشاهد خيارات أوسع وسيطرة أكثر على المواد، التي يريد الإطلاع عليها والأوقات التي سيخصصها لذلك.

وبفضل تواصل الشاشات الذكيّة مع منصات البث على الإنترنت، بدأ مبرمجو الترفيه في الحصول على كم هائل من المعلومات من متابعة تفاعل المستخدمين مع المواد المعروضة، ومن ثم شرعوا في خلق بيئات مشاهدة مرتبطة بالمتابع الفرد، بحيث يمكنه الاحتفاظ بمكتبته الخاصة من المواد، والعودة إليها في أي وقت، ومن ثم عرض محتويات المنصة على نحو فردي يتناسب مع التفاعلات السابقة لذات المتابع. وقد أدركت مختلف المنصّات سريعاً أنها من دون القدرة على تقديم خبرات محتوى مرئي يمكن تخصيصها فستفقد علاماتها التجاريّة ولاء مشاهديها سريعاً لمصلحة من يمكنه تقديم تلك الخبرات.

وهناك تجارب أخرى بدأت منذ سنوات للمعلنين بالدفع مقابل إعلانات تستهدف مجموعات أو فئات محددة من المشاهدين على نحو يتجاوز مجرد التشارك في البيانات الديمغرافيّة للمشاهدين، وفق الدراسات الإحصائيّة إلى البناء على تجميع نقاط البيانات من آلاف المصادر ومقاطعتها لوضع المشاهدين في مجموعات مستهدفة صغيرة ومحددة للغاية، يمكن على أساسها للمعلنين توجيه عروضهم ذات توافق مع احتياجات ورغبات المشاهدين، وبالتالي تضاعف فرصة اهتمامهم باستهلاك المادة المعروضة.

هذه التجارب، على محدوديتها وبدائيتها، أصبحت المنطلق الأساس للتطورات التي يعكف خبراء الذكاء الاصطناعي لإدخالها على تقنيات إنتاج وبث واستقبال ومشاهدة المواد التلفزيونيّة، حيث كلمة السرّ هي التخصيص، والثيمة الكبرى هي المحتوى المفصّل على مقاس المشاهد الفرد.

صناعة التّرفيه في العقد المقبل: كل شيء سيكون رقميّاً

وفقاً لتقديرات مراكز الأبحاث المعنية بتقدم تطبيقات التكنولوجيات الحديثة فإن مفهوم التخصيص، الذي يدعم بشكل متزايد غالبية التفاعلات التي نجريها عبر الإنترنت اليوم، سيقود بفضل القدرات الجبارة لأنظمة الذكاء الاصطناعي وآلات التعلم الذاتي إلى طفرة كبرى في صناعة وسائل الإعلام والترفيه خلال السنوات القليلة المقبلة، بحيث ستبدو كل تقنيات إنتاج واستهلاك المادة التلفزيونيّة المتوفرة حالياً متخلفة للغاية مع دخول العقد الثالث من هذا القرن. بل إن «ابتكار»، التي ستنافس مذيعات قنوات الجزيرة الحاليّات على وظائفهن، ستكون تاريخاً سحيقاً عندئذ، حيث سيمكن للمشاهد من اختيار شخصيّة المذيع أو المذيعة الذي يريد أن تقرأ له نشرة أخبار مفصلة بدقة حول اهتماماته، في الوقت الذي يريد، ودون انتظار دقات ساعات «بيغ بين».

سيزداد تخصيص المحتوى إلى النقطة التي سيجد فيها المشاهد محطة تلفزيونيّة متكاملة عابرة للقنوات والمنتجين والمنصات موضوعة رهن رغباته: برمجة وفق مزاجه، ومحتوى حسب التفضيلات والطلب، ومواد بصريّة تفاعليّة، وعروض ترويجيّة وإعلانات مخصصة للغاية، تصل للمشاهد عبر كل وسائل التفاعل مع مواد الترفيه: سواء عبر الهواتف الذكيّة، أو اللّوحيات الرقميّة، أو أجهزة الكمبيوتر إلى شاشات جهاز التلفزيون الرئيسي في منزله أو مكان عمله (لا يزال التلفزيون ملكاً للشاشات، حيث يعتمد عليه أكثر من ثلثي المشاهدين في بريطانيا كموضع رئيسي لمتابعة الترفيه). ولن يكون مستوى التخصيص الآتي مقتصراً على مستوى الفرد، بل سيكون متاحاً للحالات المزاجيّة خلال اليوم التي قد يجد الفرد نفسه فيها عبر تفاعل ذكيّ بين الآلة والشخص، فيعرض عليه من المحتوى ما يتناسب مع تلك الحالة حينها.

وهذا طبعاً ليس أمراً مرتبطاً باستقطاب الجمهور للمنصات فحسب، بل وسيمنح المعلنين فرصاً غير مسبوقة لتعظيم العائد من القيمة المستخرجة من المشاهد الفرد. فهنا تكلفة أقل وفرص استجابة للمادة الإعلانيّة أعلى بما يقارن مع الإعلانات العمياء العامة التي تصل لجميع فئات المشاهدين دون تمييز.

ماذا يعني هذا لمنتجي المحتوى التلفزيوني العرب؟

من الجليّ أن بعض التلفزيونات الرائدة في العالم العربي تدرك كم التحولات الهائل، الذي سيفرضه الذكاء الاجتماعيّ على الجميع. لكن المسألة ليست مقتصرة على ترقية وسائل البث، وتغيير منهجيات تجارة الإعلانات والاستغناء عن المذيعين لمصلحة خبراء الأجهزة الرقميّة ومن ثم انتظار انتقال غالبية الجمهور إلى استعمال أدوات الاستقبال المتطورة التي تتيح التجربة التفاعليّة المتوقعة، بقدر ما هي مرتبطة بإعادة نظر شاملة في طبيعة المحتوى المقدّم وطرق انشائه.

حتى الآن، فإن صناعة الترفيه التلفزيونيّ العربيّة مدفوعة إلى حد كبير بمفهوم البرنامج الضربة: المادة التي تجتذب إليها أكبر قاعدة جماهيريّة من المتحدثين بالعربيّة عبر الدولة أو الإقليم أو حتى العالم برمته. لكن المعلنين بعد قليل لن يكونوا مهتمين ببث إعلاناتهم على مثل هذه المواد – إلا إذا كانوا يروجون لسلع جماهيرية الانتشار – بقدر ما سيكونون في حاجة إلى الوصول إلى مجموعات محددة للغاية من المستهلكين المحتملين وتوجيه رسائل إعلانية معنونة لهم ما يتطلب توفير محتوى جاذب لجمهور متنوّع يتكوّن من مجموعات أصغر وأكثر تفاعلاً.

هناك أيضا المخاوف من تحوّل التخصيص إلى أداة للاستقطاب السياسي والاجتماعيّ. إذ يبدو أنه كلما تعمق تخصيص المحتوى، وخاصة الأخبار والوثائقيات والبرامج السياسيّة، كلما زاد خطر ما يسمى بغرف الصدى حيث تتفاعل مجموعة محدودة بشكل جدلي مع مضمون مخصص بحيث تتصلب وجهات نظرهم ويتكرّس دعمهم للمواقف الاستقطابيّة، لأنهم ببساطة لا يطّلعون على محتوى بمضمون مختلف. وبينما قد لا يمانع المعلنون من الاستفادة تجارياً من ذلك، فإن الجهات الحكوميّة المنظمة لصناعة المحتوى التلفزيوني يجب أن تضع هذه المخاوف مبكراً بعين الاعتبار.

المصدر: القدس العربي

مقترحات